رغم درجة الحرارة
المنخفضة إلا أن دفئ المشهد يُنسيك برودة الطقس ، فهنا تحار العين إلى أي ناحية من
هذا الجمال ستنظر ،
فتتيه بين كثرة
التفاصيل و روعتها و تحار الأذن أي ضحكة تجذبها قبل الأخرى أم أي مقطوعة موسيقية تستميل شغاف القلب إليها .
أكواخٌ خشبيةٌّ بسيطةٌ
مزيّنة بالألوان الزاهية و الأضواء الصفراء الدافئة التي تعكس بساطة أصحابها و
لطافتهم ،
Weihnachtsmarkt Mainz 2014 - Lichterhimmel über dem Marktplatz |
لكل منهم حاجته الخاصة
، إلا أنهم يشتركون بشيء واحد يميز المكان بأسره ، هو الضحكات النابعة من أعماق
القلب و الابتسامات العائمة على بحر من الرضا و الهدوء الداخلي.
مغمضاً عيناه ، مطلقاً
ابتسامة تفيض بالحب ، أصابعه تنساب عليها مصدرة معزوفةً تأسر الفؤاد و يُسمع صوتها
في كل زاوية من المكان ، تعانق الأحجار الباردة ثم ترتد لتملئ قلوبنا بالدفئ ، كما
ياسمين الشام حينما يداعبه الهواء فيفوح رائحة تأسر فؤاد كل من يشتمها ...
عازف الأكورديون كان
تحفة فنية بحد ذاته.
رأيتها تركض خلف طفلها
، الذي كان متجهاً ليركب مع باقي الأطفال في عربة القطار الصغير المخصص لهذه
المناسبة
كنت أتابعهم بتمعّن
مقرونٍ بابتسامة هادئة ، حتى قطع بكاء طفلة أخرى متابعتي لهم ، فهي فقدت بالونها
الأحمر و أخذت تنظر إلى السماء نظرة بريئة يتخللها حزن عميق ، إذ لا يمكنها
استرداده ، فكل ما بوسعها البكاء
.
ضمها إلى حضنه بعطف
الأب و حنانه و اشترى لها بالوناً جديداً فقبلته وعادت البسمة من جديد .
هناك على المقاعد
الخشبيه جانب نافورة الماء كان زوجان مسنان ، ترك الزمان أثره على جباههم اللاتي
كثرت عليها خطوط العمر وهم يتبسمون و ينظرون بصمت - وقد أمالا رأسيهما على بعض -
إلى مجموعة شبّانٍ من حولهم و هم يضحكون و يتبادلون المزاح و يحتسون المشروبات
الساخنة
وسط زحمة ما سبق ،
واحد فقط كان جسده معهم ، إلا أنه يختلف عنهم كثيراً، كان يبحث عن ضالته التي لا
تفارق قلبه ولا عقله لكنه لم يجدها بين زحمة المكان و تعقيد تفاصيله
كان يتأمل بصمت ..
عيناه ترى و أذنه تسمع و قلبه يخفق.
لكن أين ذهبت الألوان ؟!
ماذا حلّ بضحكات
الأطفال ؟!
أين اختفت وتلاشت
موسيقا الأوكرديون ؟!
فجأة اختفى كل شيء ..!!
انطفئ النور و حلّ
مكانه ضوء القمر
توقف الكلام والضحك و
سادت رهبة الصمت
رائحة الخشب المحترق و
المعدن المنصهر
تحول خشب الأكواخ
البني إلى فحم أخمد الغيث أزيزه و حسيسه ، و أصبح أسوداً بعد أن كان بنّياً داكناً
، ليزيد اللوحة الرمادية تشطيبات من السّواد
هي نفس الأم تركض خلف
طفلها ، الذي كان يركض متجهاً نحو سيارة الإسعاف و الغبارُ يملأُ وجهه
طفلة خرجت من ركام القصف / حلب نهاية 2016 |
لم يحضنها والدها فقد
كان محتجزاً تحت ركام منزله الذي سقطت عليه إحدى الهدايا .
لم أرى عازف الأكورديون ولا أسمع ألحانه
بلى ، هناك صوتٌ قادمٌ من بعيد ، ينساب
بتراتبيّة دقيقة يعقبها صدى أنينُ أربعينيّ لم أتمكن من معرفة تفاصيل وجهه
فالغبار يملأ المكان ، أظنني عرفته !!
فعربة التفّاح المحطمة ليست بعيدةً عنه ، إنه
بائع الفاكهة المتجول صاحب الصوت الشادي و البسمة الحنونة و القلب القنوع
لقد قذف به ضغط الانفجار إلى حافة الشارع ،
حيث كان أنبوب ماء متدلي من إحدى البنايات المهدّمة يلفظ آخر أنفاسه و تتساقط منه
قطرات من الماء في حفرة - خلفتها إحدى الشظايا - مشكلةً دوائر تتراقص كما مفاتيح
الأكورديون .
رجل يسحب زوجته المُقعدة بعد استشهادها خلال النزوح / حلب 2016 |
فتارة يتهلل وجه الرجل
وزوجته إثر سماع صرخات الشباب "الله أكبر" إنه يتنفس .
و تارةً أخرى يُغمضون
أعينهم و يميلون رؤوسهم على بعض بعد سماع صرخات الشباب "الله أكبر" رمت ...
الجسد هنا في إحدى ساحات المدن القديمة في ألمانيا
التوقيت قبل بداية
العام الميلادي الجديد بقليل
أما القلب ففي مكان
بعيد ، بعيدٍ جداً
بعيدٌ كبعد ما أشاهده
الآن عن حقيقة ما يدور في خلدي
توقف الزمن معي لبرهةٍ
و خيّل لي أننا كبشر متساوون في السعادة ، لكن وهمي الجميل لم يكتمل فالحقيقة
المره تكاد لا تفارق قلبي
قلبي الذي لا يكلّ ولا
يمل عن تذكر حلب و أهلها و مجازر ادلب و الغوطة و أصوات المعتقلين و غيرهم الكثير
الكثير
يا وجع القلب يا سوريا
...
رغم ذلك يبقى في قلبي
بصيص من الأمل ، فعسى الله أن يأتي بالنصر والفرج من عنده .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق